كيف تكون مُدرسا ناجحا
|
|
|
الذي يختار هذه الوظيفة وقد اعتزم مثل هذه الأهداف، فقد أخذ بسبب متين من أسباب النجاح والفلاح في هذا العمل.
|
ولا تظنّ أيها الطالب العزيز أن حبك التدريس واتخاذه وسيلة لغايات شريفة، وأهداف طيبة صالحة مثلى، لا تظن ذل كافياً لأن تكون مدرساً ناجحاً، فأنت في حاجة إلى أشياء كثيرة أخر، هاأنذا أقصها عليك:
|
لا بد أن تكون قوياً في مادتك العلمية التي سوف تدرسها في المستقبل، وأن تكون ذا ميل طبيعي إليها، ولا بدّ لك على الأقل من أربع سنوات دراسية تخصصية تقضيها في دراسة تلك المادة بعد المرحلة الثانوية، على أن تبذل في خلال هذه السنوات جهدك في التحصيل والفهم والإطلاع والبحث والمناقشة, وإذا لم تكن مجداً في التحصيل، حريصاً على الفهم والتعمق، ذا ميل طبيعي إلى تلك المادة، فلن تكفيك أربع ولا سبع ولا عشر، وسوف تتخرج ضعيفاً في علمك وفهمك، وسوف يكون طلابك مثلك ضعفاء، وسوف يكتشفون ضعفك مهما حاولت أن تخفيه عنهم، وحينئذ تفقد ويفقدون ثقتهم فيك وفي علمك، وتسقط شخصيتك وهيبتك، ولن ينفعك يومئذ حسب ولا نسب ولا نشب ولا شهادة عالية ولا سيارة فارهة ولا ثوب جديد، ولا قصص جميلة مسلية تقصها عليهم لتملأ الفراغ، وسوف تشعر بالنقص، وتلك مصيبة أخرى، وإذا شعر المدرس بالنقص عامل طلابه بقسوة، وأخذهم بالعنف، وعاقبهم على ذنوب صغيرة تافهة، أو على ذنوب متخيلة يظنها لشعوره بالنقص أنها واقعة وما هي بالواقعة.
|
ومما يؤسف له أن في البلاد العربية الإسلامية كثيراً من هؤلاء المدرسين الضعفاء، يسرحون ويمرحون في أمن وطمأنينة، وينامون نوماً عميقاً طويلاً ليس فيه أحلام مزعجة، غير عابئين بما ينشأ عن ضعفهم من شر مستطير.
|
فحذارِ حذارِ يا بنيّ أن تكون واحداً من هؤلاء في المستقبل، فتضيع على المئات والآلاف من أبناء المسلمين أوقاتاً ثمينة كان ينبغي أن تكون ذات ثمر، وتحرمهم علماً كان ينبغي أن يزودوا به، ثم أنت بهذا تكتسب إثماً تحسبه هيناً، وهو _ فيما أظن _ عند الله عظيم.
|
ولقد عرفت فيك _ يا بني _ الذكاء والفطنة، والذكاء صفة رئيسية من صفات المدرس الناجح، فهي التي تعينه من بعد عون الله على أن يكون قوياً في مادته العلمية، قادراً على أن يعالج بسرعة وكياسة مشكلات علمية وسلوكية قد تفجؤه في غرف التدريس، فإذا لم تكن على حظ من الذكاء والفطنة أسقط في يديك، واضطرب النظام في فصلك، وفقدت المكانة التي ينبغي أن تكون لك.
|
ثم أنت في حاجة إلى الذكاء في مواقف كثيرة، أنت في حاجة إليه حين تضع أسئلة الامتحان لطلابك، تلك الأسئلة التي أرجو أن تكون اختباراً لقدرتهم على الفهم، لا اختباراً لقدرتهم على الحفظ والاستظهار.
|
وأنت في حاجة إلى الذكاء يا بني لتعرف الفروق الفردية بين طلابك، فتعاملهم على أساسها، وتدرسهم بمقتضاها.
|
ثم أنت في حاجة إلى الذكاء لتعالج ما عساه أن يكون في المنهج المقرر من اضطراب أو تفاوت، وما عساه أن يكون في الكتاب المدرسي من أخطاء ونقص.
|
وما أكثر الأشياء التي تحتاج إلى ذكاء المدرس، ولولا أنك ذكي فطن يا بنيّ لنصحت لك أن تبحث عن عمل آخر غير التدريس.
|
التدريس يا بني قيادة، ولن تنجح قيادة بدون ذكاء.
|
ثم إنك أيها التلميذ العزيز لا مفر من أن تدرس التربية وعلم النفس وطرق التدريس، ومع اعترافي بأن المدرس مطبوع لا مصنوع، وأن المدرس يولد مدرساً بالفطرة، مع ذلك لا غناء لأي مدرس عن هذه الدراسة، غير أنه يمكن أن يقال في مثل هذا المقام: إن المدرس المطبوع لا يحتاج إلى طويل دراسة وكثير تمرين، وإن المدرس المصنوع يحتاج إليهما طويلاً، وربما لا يفيدانه إلى قليلاً.
|
وليس الغرض من هذه الدراسة أن يكون المدرس مستعبداً لها مقيداً بها، وإنما الغرض أن يستعين بها ويجربها، ويطبقها مرة بعد مرة، ليصل إلى ما يراه مناسباً لتلاميذه، وقد يزيد في بعض الطرق وقد يختصر، وقد ينوع في استعمالها من موقف إلى آخر. وبهذه الدراسة يا بني تستطيع أن تعرف أشياء كثيرة من خصائص الطلاب الجسمية والعقلية والنفسية التي تساعدك على النجاح في تدريسك، وتساعدك على فهم الدوافع التي تكمن وراء تصرفات بعض الطلاب، قد تبدو غريبة لبعض المدرسين، فيظنونها حيناً تمرداً وعصياناً، ويظنونها حيناً كسلاً وعبثاً وضعفاً، وما هي في واقع الأمر من هذا ولا ذلك في شيء.
|
وإذا كان المدرس قوياً في مادته ذكياً ذا اطلاع جيد في التربية وعلم النفس وطرق التدريس، محباً لطلابه حريصاً على إفادتهم، إذا كان على هذه الصورة استطاع بسهولة أن يختار الطريقة المناسبة لطلابه ومادته، دون أن يضيع وقتا طويلا أو يقوم بتجارب كثيرة.
|
واختيار الطريقة المثلى من أعظم صفات المدرس الناجح، ولقد قال أحد رجال التربية: إن الطريقة الصحيحة في التعليم تطيل العمر، ومعنى هذا أن الطرق الصحيحة توفر الوقت والجهد على الطالب، فيزداد انتفاعه بأيام حياته، ويجني الفهم الكثير والعلم الغزير في زمن قصير، وبذلك تصبح حياته مضاعفة الفوائد عظيمة الأجر.
|
ولست الآن يا بنيّ بحاجة إلى أن أعرض عليك طرق التدريس وما فيها من محاسن ومساوئ وأن أبين المجالات الصالحة لكل طريقة، فهذا شيء سوف تدرسه إن شاء الله فيما بعد، غير أن هناك ما لا أستطيع إلا أن أعجل به، هناك يا بني ثلاثة أشياء، لا تكاد تخلو منها أية مادة، أو يتجافى عنها أي درس جديد.
|
أولها المقدمة: وهذه المقدمة تكون في أول الحصة، وتقوم على أسئلة يوجهها المدرس إلى طلابه عن معلومات سابقة ذات صلة بموضوع الدرس الجديد أو ذات إثارة وتطلع إلى ذلك الدرس، على ألا تزيد هذه المقدمة على خمس دقائق ومن الخطأ أن يأتي المدرس بمقدمة لا تقوم على أسئلة موجهة إلى الطلاب، أو أن يبدأ درسه الجديد من غير مقدمة تنبه أذهان الطلاب التي كانت عنه غافلة، وتهيئ نفوسهم التي كانت عنه في شغل.
|
الشيء الثاني: أن يناقش طلابه مناقشة سريعة موجزة في نهاية كل مرحلة من مراحل درسه الجديد، ليطمئن إلى فهمهم ومدى استيعابهم، وليجدد فيهم النشاط والحياة، وليحول بينهم وبين شرود الأذهان وسروح الخواطر، والمعروف في علم النفس أن الطالب الإعدادي والثانوي في الكثير الغالب لا يستطيع أن يركز انتباهه بصورة مستمرة طوال الحصة، فبعد مضي فترة من الحصة تقارب خمس عشرة دقيقة يشرد ذهنه في عالم آخر، أو ينام، أو يعبث بالنظام، ولذلك كان على المدرس ألا يسمح بشرود الأذهان، وألا يتيح الفرص للنوم والعبث، ذلك بأن يسأل الطلاب من حين إلى حين عماّ درس لهم، وأن يشركهم في البحث والمناقشة في معلومات الدرس الجديد، وألا يتركهم طلاباً مستقبلين فقط، عليهم أن ينصتوا ويستمعوا ولا شيء غير ذلك، بل عليه أن يتيح لهم الفرص ليكونوا مستقبلين حيناً ومرسلين حيناً آخر، ينصتون حيناً وينصت إليهم حيناً آخر، يسألهم مرة ويسألونه مرة أخرى.
|
الشيء الثالث: أن تخصص الدقائق الخمس الأخيرة أو ما يقاربها من الحصة لتلخيص الدرس الجديد، على ألا يكون التلخيص من قبل المدرس، ولا أن يكلف به طالب واحد، ولكن يكون التلخيص بأسئلة متسلسلة تنظم أهم ما في الدرس الجديد، يقوم المدرس بتوجيهها إلى طلاب متفاوتين في القوة غير متجاورين في المقاعد، وبهذه الأسئلة يعرف المدرس مقدار ما فهمه طلابه، ومستوى ما حصلوه، ومقدار نجاحه في عمله.
|
أما المدرس الذي يقضي حصته كلها يتكلم ويشرح، والطلاب سامعون ينظرون، لا يسألهم عن شيء، ولا يسألونه عن شيء، مثل هذا المدرس قد نسميه خطيباً مفوّهاً، وقد نسميه متحدثاً فصيحاً، ولكننا لا نستطيع بأية حال أن نسميه مدرساً ناجحاً، فنجاح المدرس لا يقاس بمقدار ما يشرح ويتحدث، ولكن بمقدار ما يفهم الطلاب من درسه، وبمقدار ما يشاركونه في ذلك الدرس.
|
الطالب بعد تخرجه سيعرض له كثير من المسائل العلمية التي ليس له بها علم من قبل، وسوف يسأله طلابه أو الناس عن أمور لم تمرّ به ولم يمرّ بها، فإذا لم يكن قد درب في أثناء الدراسة على البحث العلمي، والملاحظة الدقيقة، والتفكير المنظم، وعلى الوصول إلى المعلومات بجده وكده ومناقشاته _ وقف عاجزاً ضعيفاً في ميادين العلم والدعوة والتعليم، يبكي ولا يجد من يمسح دموعه، ويندم ولات ساعة مندم.
|
أما الطلاب الذين دربوا في أثناء دراستهم على أن يسألوا مدرسهم ويسألهم، ويناقشوه في قضايا العلم ويناقشهم، وعلى أن يحصلوا العلم بالبحث والتنقيب في الكتب والمكتبات، أما هؤلاء فسوف يكونون في المستقبل بعون الله علماء أقوياء، ولا يكونون عاجزين ضعفاء.
|
ومن الملاحظ أن كثيراً من ذوي الشهادات العالية في البلاد العربية الإسلامية ليس في إنتاجهم عمق ولا جدة، وربما كان من أعظم الأسباب في ذلك أن الطريقة التي تعلموا بها كانت طريقة سيئة تقوم على الحفظ والاستظهار، لا على البحث والمناقشة ودقة الملاحظة وتحمل المسئولية في تحصيل العلم.
|
ولن يتم نجاح المدرس يا بني إلا بالعقيدة الصادقة والخلق الكريم، لا يتكلف ذلك تكلفاً، ولا يلبس له ثياب الممثلين على المسارح.
|
ومن الثابت لدى علماء التربية أن الطالب يتأثر بسلوك مدرسه وأعماله وتصرفاته أكثر من تأثره بما يلقيه عليه من نصائح ومواعظ، ولهذا ولأشياء أخرى كثيرة غير هذا، كان عليه أن يكون قدوة صالحة في أعماله وتصرفاته وسلوكه وأقواله قبل أن يتقدم إلى الطلاب بمواعظه ونصائحه.
|
وعليه أن يثبت في قلوب طلابه عقيدة صافيه عميقة، وأن يغرس في نفوسهم أخلاقاً كريمة حميدة مبنية على تلك العقيدة منبعثة منها، فتشيع في نفوسهم الأمن والطمأنينة والراحة التي ينعم بها المؤمنون، وتلقى عنهم القلق والشك والحيرة التي يشقى بها الملحدون الضالون.
|
ولن أستطيع في مثل هذا الموقف أن أعدد الصفات الحميدة والأخلاق الكريمة التي ينبغي أن تكون في المدرس الناجح، ولكن أقربها صلة إلى عمله، وأوثقها ارتباطاً بوظيفته، وأبعدها أثراً في نجاحه_ أن يكون عادلاً في معاملته لطلابه، فلا يقبل على بعض ويعرض عن بعض، ولا يعامل طالباً بعطف ولطف وطالباً آخر بجفاء وفظاظة، ولا يختص بأسئلته ومناقشاته الأقوياء، دون أن يعنى بالمتوسطين والضعفاء.
|
أن يكون عادلاً في أسئلة الامتحانات، فلا يكون فيها تعسف ولا إعنات، وأن تكون في مستوى ما كان يعلمه لطلابه، ومن الظلم أن يكون المدرس مترفقاً سهلاً في تدريسه، يمرّ بمسائل العلم مرّاً ليّناً ليس فيه تعمق ولا سعة، حتى إذا جاء الامتحان كانت الأسئلة عميقة دقيقة كثيرة الثنايا والعقبات، على مستوى لم يعرفه طلابه في دروسه، ولم يدربهم عليه من قبل.
|
وأن يكون عادلاً في تصحيح الإجابات، فلا يخشى مجد أن يضيع له حق، ولا يطمع كسول أن يأخذ أكثر مما يستحق.
|
وأن يكون متواضعاً ليّن الجانب، بعيداً عن العجب والكبر والمخيلة، لا يتهيب الطلاب أن يسألوه كلما غامت عليهم مسألة، ولا يجدون في أنفسهم حرجاً أن يستعينوا به كلما عرضت لهم مشكلة.
|
أن يكون محباً لطلابه عطوفاً عليهم، يتألم لآلامهم، ويأسى لما يلحق بهم من أذى، يعنى بضعفائهم ولا يسخر من أخطائهم ويتخذ منها وسيلة للاستهزاء والزراية، ولا يدخر جهداً في سبيل إفادتهم وتعليمهم وإرشادهم إلى ما يفيدهم في حياتهم الدراسية، وفي حياتهم اليومية، وفي حياة المستقبل بعد التخرج.
|
وأن يكون قوي الإرادة ضابطاً لنفسه، لا يسرع إليه غضب ولا ثورة، ولا يستغل قوانين المدرسة وأنظمتها لإيقاع العقوبة وإظهار السلطة كلما مرّ طالب بعبث عابر، أو صدر عن طالب صغير ذنب، أو وقع طالب في تقصير غير معتاد.
|
على أنه ينبغي ألا يفهم الطلاب من تسامحه وسعة صدره وحلمه أنه ضعيف عاجز، فيستخفوا به، ويستهينوا بأمره، وتفلت ا لأمور من بين يديه، وهذا موقف دقيق يحتاج إلى كياسة وفطنة وحزم.
|
ولا بدّ للمدرس الناجح أن يحافظ على ثلاثة أشياء محافظة شديدة:
|
الشيء الأول: أن يحافظ على المواعيد التي يضربها لتلاميذه، كتصحيح دفاتر الإنشاء والتطبيق، أو مناقشة مسائل علمية، أو إجراء بعض الاختبارات، أو القيام بنشاط لا صفي، وإن إخلاف الموعد أكثر من مرة يحط من قدره، ويجعله قدوة سيئة لطلابه، ولا ينبغي للمدرس أن يستهين بهذا الأمر ظاناً أن هذه أشياء ليست بذات أهمية، أو أنهم طلاب لا يقدرون المسئولية.
|
الشيء الثاني: أن يحافظ على أوقات طلابه، وأن يحرص عليها جد الطاقة، وليحذرن أن يخادع نفسه أو يخدع الناس بمعاذير واهية، هو يعرف حق المعرفة أنها لا تنفعه شيئاً عند الله، فوقت الحصة ليس ملكاً للمدرس، وليس من حقه أن يتصرف به تصرفاً ليس للطلاب من ورائه نفع ولا صلاح، فخمس دقائق إذا اعتاد المدرس أن يختلسها من كل حصة ومن كل طالب هي شيء كثير جداً إذا جمعت في نهاية العام.
|
ومن ضياع الوقت على الطلاب أن يخرج المدرس عن موضوع درسه إلى أمور أخرى ليس بينها وبين الدرس نسب ولا صلة رحم، وقد يعرف الطلاب فيه هذا العيب، فيأخذون يستدرجونه إليه من حيث لا يدري، كلما سنحت فرصة، عابثين به مستخفين بقدره، وبذلك يفلت الزمام من يديه، ويسقط في ميدان القيادة عاثراً، دون أن يجد أحداً يقيله من هذا العثار.
|
ومن ضياع الوقت على الطلاب أن تعمل في داخل الفصل شيئاً يمكن أن تقوم به خارج الفصل، دون أن تضيع على الطلاب فائدة تذكر.
|
الشيء الثالث: أن تحافظ على النظام داخل الفصل فيكون شرحك وأسئلتك مسموعة لكل طالب، ويكون كل طالب منتبهاً إليك، دون أن تسمح لطلابك بأن يشغل بعضهم ببعض في حديث أو جدل أو تهامس، فيكون في ذلك تشويش عليك وعلى سائر الطلاب، وانصراف ومشغلة عن موضوع الدرس، ولذلك ينبغي أن تقف في مكان في الفصل يراك فيه الطلاب جميعاً، وتراهم منه جميعاً، ومما يعاب على المدرس أن يمشي في الفصل أمام الطلاب ذهاباً وجيئة، مقبلاً مدبراً، أو يجوس خلال المقاعد، لأن هذا يعطي فرصة مواتية لعبث العابثين منهم، ويجعلهم يملون ملاحقته بأبصارهم من جهة إلى جهة.
|
ولا بد للمدرس الناجح أن يكون متعاوناً، فيبذل ما يستطيع من وقته وجهده وعلمه وخبرته فيما يتطلب المسؤولون عنه من أعمال إضافية عابرة، وفيما يحتاج إليه إخوانه المدرسون من حل مشكلة تعليمية أو تربوية، ومن مشاركة في نشاط لا صفي، وفيما يحتاج إليه طلابه خارج الفصل من فهم مسألة علمية، أو إعطاء بعض حصص إضافية للضعفاء، إذا اتسع لديه الوقت وأسعفه الجهد، ومن الأنانية الذميمة أن يتهرب المدرس من المسؤولية العامة، وأن يقصر جهده على حصصه المقررة في جدول الدروس الأسبوعي.
|
ولا بد للمدرس الناجح أن يكون كثير القراءة واسع الاطلاع، ومن المؤسف حقاً أن كثيراً من المدرسين لا يقرءون، مكتفين بما قرءوه أيام كانوا طلاباً في الجامعة أو دور المعلمين، والمدرس الذي لا يقرأ إنما هو مدرس يموت عقله يوماً بعد يوم، ويموت علمه مسألة بعد مسألة، ولن يمضي عليه طويل وقت حتى يصبح في مستوى طلابه، لا يعرف أكثر مما في الكتاب المقرر، وربما كان بعض طلابه الأذكياء ذوي قراءات خاصة وحسن اطلاع، فيكونون أكثر منه علماً وأوسع منه معرفة، وقد يوقعونه في مآزق لا يدري كيف تكون فيها النجاة، ويسوقونه إلى مواقف علمية حرجة تسقط فيها هيبته ومكانته وراية القيادة من يده.
|
ولا ينبغي للمدرس أن يقتصر قراءته واطلاعه على مادة اختصاصه، وما يتصل بمهنته، فإنه إن فعل هذا ظل أفقه ضيقاً، وتفكيره محدوداً، على الرغم من أنه قد يكون واسع الاطلاع عميقاً في مادة اختصاصه.
|
إن عصرنا هذا يموج بأنواع العلوم والثقافة، فينبغي أن يلم المدرس بأطراف نافعة صالحة منها، ما اتسع له الوقت وأسعفه الجهد، وأن يرشد طلابه إلى كل نافع مفيد، وكلما شعر الطلاب أن مدرسهم أوسع منهم علماً، وأكثر منهم اطلاعاً، وأعمق منهم تفكيراً، ازدادوا ثقة فيه، ورغبة في الاستماع إليه، وتأثراً بما يقول، واقتداء بما يعمل.
|
ولا بد للمدرس الناجح من صحة جيدة تمكنه من القيام بواجبه على أفضل وجه، فيستطيع أن يشرح ويناقش دون أن تبح حنجرته وتنهج رئتاه، ويستطيع أن يظل واقفاً في حصصه مشرفاً على طلابه دون أن تنوء به ساقاه، ويستطيع أن يحضر دروسه اليومية في البيت قبيل أن يأخذه النعاس ويستولي عليه التعب.
|
والصحة سبب من أسباب النشاط، ودعامة قوية من دعائمه، ولكنها لا تستلزمه ولا تستوجبه، فلدى بعض المدرسين صحة جيدة، ولكن الكسل طبيعة فيهم وخلق، ولدى بعض المدرسين شيخوخة سن ووهن عظام، ولكنهم يأبون على أنفسهم القعود عن الواجب والإخلاد إلى الأرض.
|
والمدرس الناجح لا بد أن تكون لغته سليمة من العيوب اللسانية، مبرأة من اللهجات العامية، واضحة الكلمات والحروف، مسموعة في أرجاء الفصل، لا تصخ الآذان ولا تخافت، ليس فيها إسراع يضيع المعنى، ولا إبطاء يبعث على الملل.
|
وينبغي أن يكون الأسلوب جذاباً يثير الانتباه ويبعث على الارتياح، غير عابس ولا جاف، يفسح للفكاهة المهذبة العابرة إذا دعت إليها مناسبة.
|
وهناك علاقة قوية وصلة وثيقة بين لغة المدرس وبين شعوره نحو طلابه وحبه لمادته ودرسه، فإذا كان المدرس قوياً في مادته، محباً لطلابه, يحس بالراحة والأنس في غرف التدريس، رأيت ذلك واضحا في حركاته ولفتاته وشرحه، وأحسست أن في لغته وأسلوبه تياراً من الكهرباء يضيء ولا يحرق، ورائحة ذكية تنعش أرواح الطلاب دون عطر ولا زهر.
|
أما إذا كانت لغة المدرس رديئة، تغلب عليها العامية، أو كانت مضطربة قلقة، يبدئ فيها ويعيد دون أن يفهم شيئاً، أو كان المدرس يأكل بعض الحروف، أو ينطق بها محرفة، إذا كانت لغة المدرس على شيء من هذا أو نحوه، مجتها آذان الطلاب، وضاقت بها صدورهم، وفرت منها آذانهم، وتجهمت لها الوجوه, أي شيء يغريهم بالاستماع إلى ما يقول وهو لا يفهمون عنه شيئاً ولا يعقلون؟!
|
وقد أجري استفتاء عام على طلاب المدارس الثانوية في إحدى الدول المتقدمة الكبرى، استفتاء يذكرون فيه الصفات التي يفضلونها في المدرس، فكان من تلك الصفات التي أجمعوا على تفضيلها في المدرس أن تكون لغته سليمة واضحة متخيّرة.
|
وقد أجري استفتاء آخر على الموجهين التربويين في إحدى الدول العربية عن الصفات التي يقاس بها نجاح المدرس، فكان من تلك الصفات التي أجمعوا عليها أن تكون لغته فصيحة مفهومة.
|
ولا بدّ للمدرس الناجح أن يكون نظيفاً حسن البزة دون تكلف ولا مبالغة، والمدرس الذي لا يعنى بحسن مظهره ولا أناقة هندامه، ظاناً أن القيمة كلها لعلمه وأخلاقه وحسن إفادته، هو مدرس لم ينظر إلى الطرف الآخر في هذه القضية، فإن الناس وفيهم الذين يعنيهم هذا الأمر، لهم فيه رأي آخر، فالمظاهر الحسنة كانت ولا تزال لها قيمة تذكر، وسحر يؤثر، ونفوذ عجيب، وإنك لتجد هذا واضحا في شتى شؤون الحياة : في غلف الكتب والمجلات التي تطبع وفي أجسام السيارات التي تصنع، وفي هندسة البيوت التي تبنى، وفي قصائد الشعر وقطع النثر التي تروى، وفي زخرفة الآنية التي نأكل بها ونشرب، وفي الثياب التي نختارها ونلبس، الحقائق وحدها يا بني لا تكفي، لابدّ للحقائق من أن تلبس ثوباً جذاباً يلفت الأنظار ويجذب الأبضار، ولكن إياك إياك والمبالغة والتكلف وتجاوز حدود الاعتدال، فإن لذلك آثاراً سيئة جداً.
|
هذا يا بني ما أردت أن أقوله لك اليوم، كي تكون مدرساً ناجحاً في المستقبل، وسوف تمدك الدراسة المسلكية والتجارب العملية، والقراءة الدائبة والاطلاع الواسع، بأكثر من هذا وأوسع.
|
وإني لأسأل الله تعالى أن يهيئ لك البيئة الصالحة والجو الملائم، كي تجد هذه الصفات التي ذكرت طريقها إلى العمل والأثمار، فأسأله تعالى أن يهيئ لك في المدرسة التي سوف تدرس فيها إدارة حازمة عادلة تقول للمحسن قد أحسنت وتقول للمسيء قد أسأت، فيزداد المحسن إحساناً على إحسانه ويرجع المسيء عن التمادي في ضلاله وبهتانه.
|
وأسأل الله تعالى أن تجد أمامك مناهج على مستوى طلابك، وعلى قدر الحصص المقررة في العام الدراسي، وكتباً جيدة الطباعة، وافية بالمنهج، محضرة بين أيدي الطلاب في بداية السنة الدراسية، وبذلك توفر وقتك وجهدك للتعليم والإفادة، فلا تشقى ولا يشقى من معك من الطلاب في معالجة عيوب المنهج، ولا في تصحيح الكتب المقررة.
|
وأسأله تعالى أن تجد أمامك فصولاً دراسية ليست مزدحمة بالطلاب، ذات أعداد يرضى عنها رجال التربية، وأن تجدغرفاً دراسية واسعة، تشرق فيها الشمس، ويتجدد فيها الهواء، وتفيض أرجاؤها بالنور، قد أثثت بمقاعد مريحة، وسبورة واسعة صالحة.
|
وأسأله تعالى أن يهب لك مرتباً حسناً، يوفر لك حياة كريمة، وبالاً ناعماً، كي تتفرغ للقراءة والدراسة والتربية والتعليم، بجهد خالص، ونفس راضية مطمئنة.
|
وبعد هذا كله، وقبل هذا كله، أسأل الله تعالى أن يرعاك وأن يسدد خطاك، وسلام الله عليك يا بني، وسلام الله عليكم أيها الإخوة المستمعون الكرام . . .
|